أما النجاشي فإن إيمانه أيضاً عجيب! هذا الرجل البعيد عن أرض العرب، والذي لا يعرف هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا قومه، وإنما جاءه جماعه مهاجرة من مكة خرجت من اضطهاد القوم وأذاهم وتعذيبهم، وليس كل الذين هاجروا إِلَى الحبشة كَانَ سبب خروجهم وقوع الأذى عليهم؛ فـعثمان -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وبعض الأشراف لم يخرجوا؛ لأن هناك أذىً مباشراً وقع عليهم؛ لكنهم خرجوا لأنهم لم تحتمل نفوسهم أن يرو الحق ويعتقدوه، ومع ذلك يكذبهم قومهم ويتهمونهم بالسفاهة، فأخرجهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هنالك.
وكان في ذلك الخروج حكمة عظيمة غير مسألة أنهم يفرون بدينهم ليعبدوا الله، وهي: أن البيوت المكية تتضعضع وتتزعزع فيأتي الإِنسَان إِلَى بيت، فَيَقُولُ: لماذا خرج فلان؟
قَالَ: لأنكم عذبتموه، ولم تجعلوه يدين بالحق.
فهذا يخرج ابنه، وهذا يخرج عمه، وهذا يخرج أبوه، وهذا تخرج زوجته، شيءٌ لا تطيقه النفوس، فحينئذ الضمير الداخلي يهتز، ويقولون لأنفسهم: ولِمَ لا ندعهم يدينون بما شاؤا؟
لِمَ لا ندعهم أحراراً يتعبدون كما شاؤا ويبقون في بلادهم؟.

فمن آثار الحكمة في ذلك أنه أثار هذا الضمير، ولذلك كَانَ أحد السفيرين اللذين بعثتهما قريش له ضمير حاضر حي كما سنرى في القصة، لقد رأت قريش أنه لا بد من إرجاعهم إِلَى مكة ولو لم يكن في ذلك الإرجاع أنهم سيعذبونهم ويذلونهم، لكن فيه القضاء عَلَى ما بدأت البيوت المكية تتفاعل معه؛ من مسألة فقد الآباء، والأقرباء والأرحام لأجل الدين، قالوا: إذاً نستردهم إليهم ويكون الموقف فيما بعد، فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعه إِلَى النجاشي وأهدوا إليه هدايا، ومن أعظم الهدايا التي كَانَ يحبها النجاشي ويحبها قومه الجلود المدبوغة، وكانت توجد لدى العرب، ولا توجد عند غيرهم من الأمم بالشكل الذي عند العرب، فكانت تعجبهم هذه البضاعة وهذه الهدايا والتحف فأعطوهم التحف.
وقد كَانَ قال أشراف قريش: اذهبوا إليه، وأعطوا رؤساء القوم والأساقفة والمستشارين كلاً منهم هديته، وأقنعوهم عَلَى الأمر قبل أن تكلموا النجاشي، فإذا كلمتموه، فإنهم يوافقونكم عَلَى ذلك، فذهب عمرو وعبد الله وجلسوا إِلَى المستشارين والمكرمين والوزراء، وأعطوا كلاً منهم هديته وتقبلوها.
وقالوا لهم: الأمر كذا وكذا، ونريد إذا طرح الموضوع عند الملك أن تؤيدوه، ثُمَّ دخلوا عَلَى الملك فسلموا عليه وأهدوا إليه الهدية، وقالوا له: أيها الملك إننا جئنا إليك من أشراف قومنا، وإنه نبتت في قومنا صبية سفهاء تركوا دين قومهم وأشرافهم وكبارهم، وسفهوا أحلامهم، وخطئوا آراءهم، وقد جاءوا إليك مهاجرين وإن قومهم أعلم بهم منكم، فإن رأيتم أن تردوهم إِلَى أقوامهم، فإنهم أعلم بشأنهم وحالهم منكم؛ لكي لا تفسد المودة بينك وبينهم، هذا معنى كلامهم.
فَقَالَ النجاشي: إئتوني بهم واستشار قومه، فأشار المستشارون وقالوا أيها الملك: هَؤُلاءِ سفهاء وقومهم أعلم بهم وبحالهم فردهم إليهم،
ولم يكونوا يريدون لا هَؤُلاءِ ولا عمرو وعبد الله- أن يأتي الْمُسْلِمُونَ إِلَى مجلس النجاشي لأنهم لو جاءوا، ودار الحوار فالنتيجة غير مضمونة، فكانوا يريدون أن يصدر أمر فوري وتنتهي المسألة.
ولكن النجاشي قَالَ: إئتوني بهم، لأرى ما عندهم، ولما بلغ الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- أن النجاشي يريدهم، وأن رسل قريش قد جاءت اجتمعوا، وَقَالُوا: ماذا نصنع؟
فَقَالُوا: لا نقول -إن شاء الله- إلا الحق والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سيظهر أمرنا، وسوف تكون العاقبة لنا.
ثُمَّ جاءوا إليه فَقَالَ لهم: ما شأنكم وما خبركم؟
فتكلم جعفر-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقَالَ: أيها الملك إنّا كنا في قوم كفر وجاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونقطع الأرحام، ونأكل مال اليتيم ونفعل ونفعل؛ وذكر من الموبقات التي كانوا يرتكبونها في الجاهلية وكنا نفعل أشياء غير ذلك فبعث الله -تعالى- فينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إِلَى عبادة الله وحده ونبذ ما نَحْنُ عليه من الأصنام، وأمرنا بالعفاف، والتقوى، وصلة الأرحام، وصيانة الأيتام، ونهانا عن الفجور، وعن كذا وكذا فآمنا به وصدقناه واتبعناه، فآذانا قومنا وأبوا علينا أن نتبعه، وأرغمونا عَلَى أن نعود فيما كانوا فيه من الكفر والضلالة والجاهلية.
فلما رأينا الأمر كذلك جئنا إليك، وهاجرنا إِلَى بلادك؛ لعلمنا أنك ملك عادل لا يظلم أحد في جوارك، وهاهم قد أرسلوا إليك يطلبوننا فهذا هو شأننا معهم.
فَقَالَ لهم النجاشي: هل عندكم مما جَاءَ به شيء؟...إلخ الشاهد أن النجاشي الآن سمع الدعوى -دعوى النبوة- فيريد شيئاً يستدل به، وتأملوا كيف سيكون الدليل عَلَى صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدليل: جزء من الدعوى؛ لأنه نفس القُرْآن وهو مما كذب به الكفار، وَقَالُوا: إنه قول شاعر أو ساحر أو كاهن أو كذا أو كذا، مما قالوا، فما الدليل أن هذا القُرْآن من عند الله؟
العادة لمثل هذه القضايا أن المسألة تحتاج إِلَى دليل خارجي؛ لأن هذا القُرْآن جزء من المشكلة الدائرة بين الْمُشْرِكِينَ وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف يأتون بهذه الدعوة ويجعلونها دليلاً أو يقدمونها؟
الجواب: أن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقدموها كدليل وإنما هي ذاتها دليل،
هم قرءوا عليه جزءاً من أول سورة مريم، فلما سمع ذلك اخضلت عيناه بالدمع، وتلفت عمرو وعبد الله، وإذا بالقساوسة أيضاً تخضل لحاهم من الدمع، وإذا بهم يخشعون ويخضعون، سُبْحانَ اللَّه! وفيهم من لا يعرف اللغة العربية، وربما لا يترجم لهم شيئاً منها، وهذا القُرْآن هو نفسه القضية المختلف فيها كَانَ يمكن أن يقول: ما الدليل عَلَى أنه من عند الله لكن: اليقين أكبر من أنه يحتاج إِلَى دليل، فالدعوى نفسها تحمل دليلها في ذاتها، ومتى عرف العرب مثل هذا الكلام؟ وهذا الكلام لا يدخل للآذان، إنما يدخل إِلَى القلوب مباشرة، سواءً من يعرف لغة العرب أو من لا يعرفها، سُبْحانَ اللَّه!
ولذلك قال الله تعالى: ((وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ)) [المائدة:83] هذه الآية نزلت في النجاشي ومن سمع هذا القرآن، وأحق النَّاس بها هم أولئك فَقَالَ لهم: إن هذا والذي جَاءَ به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
هذا الكلام يخرج من نفس ما جَاءَ به عيسى، وما جَاءَ به موسى، فكل من يؤمن برسالة عيسى وموسى وأي نبي؛ فعليه لزاماً أن يؤمن بهذا النبي،
وأن هذا من عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ: لن أردهم إليكم وأخرجهم، وقَالَ: هاتوا الأدم فأخذ الأدم والتحفة والهدية، وقَالَ: خذوها فرجعوا عنه.

أما عبد الله بن أبي ربيعة فقد اقتنع ولم تكن ترضى نفسه أن يعود أُولَئِكَ إِلَى ما كانوا فيه من الاضطهاد، وأن يخرجوا أذلة من هذا البلد رغم العداوة ورغم أنه سفير قومهم إليهم.
وأما عمرو بن العاص فإنه كَانَ لا يريد أن يرجع إلا وهو منتصر، وأحياناً يكون اشتداد القضية واشتداد الموضوع ادعى لأن يكون الحسم أكثر، فكّر عمرو وقَالَ: والله لآتينهم بالقاصمة التي لا يستطيعون ردها.
فذهب إِلَى النجاشي في اليوم الثاني، وقَالَ: أيها الملك: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً إنهم يقولون: إنه عبد وهنا المشكلة لأن عمرو بن العاص يعلم أن النَّصَارَى جميعاً يقولون: إنه ابن الله، وأنه ثالث ثلاثة، وأنه إله ولاحظوا أنه لم يبين أنه عبد الله، المهم عبد ليكون نوع من الإثارة.
والنجاشي أيضاً رجل عادل منصف، فاستدعاهم مرة أخرى ليسمع جواباً عَلَى هذه التهمة.
فلما بلغ الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- ذلك، قالوا: ماذا نصنع؟
قالوا: والله لن نقول إلا الحق، وما قاله رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليكن ما يكون.
انظر إِلَى المسألة إذا كَانَ أمر دين واعتقاد لأن المسألة مسألة كفر وإيمان فلابد أن يقول الإِنسَان كلمة الحق، والنتيجة معروفة لطلبهم كي يرجعوا إِلَى مكة وهم خرجوا منها، ولهم من يعذب هناك فرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هناك وليس هناك الإكراه القاهر الملجئ الذي يضطرهم أن يقولوا كلمة الكفر لكن هناك صعاب ومتاعب؛ لكن لا تضر هذه الأمور في سبيل أن تقال كلمة الحق والله ما عدا عيسى هذا الوصف.
هذه هي حقيقة عيسى ولا أكثر من ذلك أبداً، فتناخرت بطارقته -رجال الدين- فقَالَ: وإن تناخرتم! وفرح أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمن النجاشي وأصبح بذلك مسلماً مؤمناً من المؤمنين،
وقصته معروفة.
ولكن الشاهد هو أن النجاشي من وراء البحار والقفار، سمع دعوى النبوة، وصدق بنبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناءاً عَلَى بديهة ونظر وحكمة، ولم يكن بناءً عَلَى معجزة، فلم ير عصى تنقلب حية، ولم ير يداً بيضاء، أو ميتاً ينشر كما كَانَ عيسى عَلَيْهِ السَّلام، المهم أن لليقين مصادر أخرى، ولإثبات دعوى النبوة مصادر أخرى غير ما يقوله هَؤُلاءِ المتكلمون.